كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الدرس الثالث: 7 علم الله الشامل لكل ما يحدث في الكون:
ويستطرد السياق من تقرير حقيقة: {والله على كل شيء شهيد}.. إلى رسم صورة حية من هذا الشهود، تمس أوتار القلوب:
ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض، ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم، ولا خمسة إلا هو سادسهم، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم، أينما كانوا، ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة، إن الله بكل شيء عليم..
تبدأ الآية بتقرير علم الله الشامل لما في السماوات وما في الأرض على إطلاقه، فتدع القلب يرود آفاق السماوات وأرجاء الأرض مع علم الله المحيط بكل شيء في هذا المدى الوسيع المتطاول. من صغير وكبير، وخاف وظاهر، ومعلوم ومجهول..
ثم تتدرج من هذه الآفاق وتلك الأرجاء، وتزحف وتقرب حتى تلمس ذوات المخاطبين وتمس قلوبهم بصورة من ذلك العلم الإلهي تهز القلوب:
{ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا}..
وهي حقيقة في ذاتها، ولكنها تخرج في صورة لفظية عميقة التأثير. صورة تترك القلوب وجلة ترتعش مرة، وتأنس مرة، وهي مأخوذة بمحضر الله الجليل المأنوس. وحيثما اختلى ثلاثة تلفتوا ليشعروا بالله رابعهم. وحيثما اجتمع خمسة تلفتوا ليشعروا بالله سادسهم. وحيثما كان اثنان يتناجيان فالله هناك! وحيثما كانوا أكثر فالله هناك!
إنها حالة لا يثبت لها قلب؛ ولا يقوى على مواجهتها إلا وهو يرتعش ويهتز... وهو محضر مأنوس نعم.. ولكنه كذلك جليل رهيب. محضر الله: هو معهم أينما كانوا..
{ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة}..
وهذه لمسة أخرى ترجف وتزلزل.. إن مجرد حضور الله وسماعه أمر هائل. فكيف إذا كان لهذا الحضور والسماع ما بعده من حساب وعقاب؟ وكيف إذا كان ما يسره المتناجون وينعزلون به ليخفوه، سيعرض على الأشهاد يوم القيامة وينبئهم الله به في الملأ الأعلى في ذلك اليوم المشهود؟!
وتنتهي الآية بصورة عامة كما بدأت:
{إن الله بكل شيء عليم}.
وهكذا تستقر حقيقة العلم الإلهي في القلوب، بهذه الأساليب المنوعة في عرضها في الآية الواحدة. الأساليب التي تعمق هذه الحقيقة في القلب البشري، وهي تدخل بها عليه من شتى المسالك والدروب!
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقولونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقول حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)}
الدرس الرابع: 8 ذم المنافقين لتناجيهم بالباطل:
ذلك التقرير العميق لحقيقة حضور الله وشهوده في تلك الصورة المؤثرة المرهوبة تمهد لتهديد المنافقين، الذين كانوا يتناجون فيما بينهم بالمؤامرات ضد الرسول صلى الله عليه وسلم وضد الجماعة المسلمة بالمدينة. مع التعجيب من موقفهم المريب:
{ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير}.
والآية توحي بأن خطة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المنافقين في أول الأمر كانت هي النصح لهم بالاستقامة والإخلاص، ونهيهم عن الدسائس والمؤامرات التي يدبرونها بالاتفاق مع اليهود في المدنية وبوحيهم. وأنهم بعد هذا كانوا يلجون في خطتهم اللئيمة، وفي دسائسهم الخفية، وفي التدبير السيء للجماعة المسلمة، وفي اختيار الطرق والوسائل التي يعصون بها أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم ويفسدون عليه أمره وأمر المسلمين المخلصين.
كما أنها توحي بأن بعضهم كان يلتوي في صيغة التحية فيحورها إلى معنى سيء خفي: وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله. كأن يقولوا- كما كان اليهود يقولون- السام عليكم. وهم يوهمون أنهم يقولون: السلام عليكم. بمعنى الموت لكم أو بمعنى تسامون في دينكم! أو أية صيغة أخرى ظاهرها بريء وباطنها لئيم! وهم يقولون في أنفسهم: لو كان نبيا حقا لعاقبنا الله على قولنا هذا. أي في تحيتهم، أو في مجالسهم التي يتناجون فيها ويدبرون الدسائس والمؤامرات.
وظاهر من سياق السورة من مطلعها أن الله قد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بما كانوا يقولونه في أنفسهم، وبمجالسهم ومؤامراتهم. فقد سبق في السورة إعلان أن الله قد سمع للمرأة المجادلة؛ وأنه ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم.. الخ. مما يوحي بأنه أطلع رسوله على مؤامرات أولئك المنافقين وهو حاضر مجالسهم! وبما يقولونه كذلك في أنفسهم.
ثم رد عليهم بقوله تعالى: {حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير}.
وكشف هذه المؤامرات الخفية، وإفشاء نجواهم التي عادوا إليها بعدما نهوا عنها، وكذلك فضح ما كانوا بقولونه في أنفسهم: {لولا يعذبنا الله بما نقول}.. هذا كله هو تصديق وتطبيق لحقيقة علم الله بما في السماوات وما في الأرض، وحضوره لكل نجوى، وشهوده لكل اجتماع. وهو يوقع في نفوس المنافقين أن أمرهم مفضوح، كما يوحي للمؤمنين بالاطمئنان والوثوق.
الدرس الخامس 9- 10 النهي عن النجوى المحرمة وإباحة النجوى الطيبة وتحصين من وساوس الشيطان:
وهنا يلتفت إلى الذين آمنوا، يخاطبهم بهذا النداء: يا أيها الذين آمنوا لينهاهم عن التناجي بما يتناجى به المنافقون من الإثم والعدوان ومعصية الرسول، ويذكرهم تقوى الله، ويبين لهم أن النجوى على هذا النحو هي من إيحاء الشيطان ليحزن الذين آمنوا، فليست تليق بالمؤمنين:
{يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إليه تحشرون إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله وعلى...............}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) الله فليتوكل المؤمنون}..
ويبدو أن بعض المسلمين ممن لم تنطبع نفوسهم بعد بحاسة التنظيم الإسلامي، كانوا يتجمعون عندما تحزب الأمور، ليتناجوا فيما بينهم ويتشاوروا بعيدا عن قيادتهم. الأمر الذي لا تقره طبيعة الجماعة الإسلامية، وروح التنظيم الإسلامي، التي تقتضي عرض كل رأي وكل فكرة وكل اقتراح على القيادة ابتداء، وعدم التجمعات الجانبية في الجماعة. كما يبدو أن بعض هذه التجمعات كان يدور فيها ما قد يؤدي إلى البلبلة، وما يؤذي الجماعة المسلمة- ولو لم يكن قصد الإيذاء قائما في نفوس المتناجين- ولكن مجرد إثارتهم للمسائل الجارية وإبداء الآراء فيها على غير علم، قد يؤدي إلى الإيذاء، وإلى عدم الطاعة.
وهنا يناديهم الله بصفتهم التي تربطهم به، وتجعل للنداء وقعه وتأثيره: يا أيها الذين آمنوا.. لينهاهم عن التناجي- إذا تناجوا- بالإثم والعدوان ومعصية الرسول. ويبين لهم ما يليق بهم من الموضوعات التي يتناجى بها المؤمنون: {وتناجوا بالبر والتقوى}.. لتدبير وسائلهما وتحقيق مدلولهما. والبر: الخير عامة. والتقوى: اليقظة والرقابة لله سبحانه، وهي لا توحي إلا بالخير. ويذكرهم بمخافة الله الذي يحشرون إليه، فيحاسبهم بما كسبوا. وهو شاهده ومحصيه. مهما ستروه وأخفوه.
قال الإمام أحمد: حدثنا بهز وعفان، قالا: أخبرنا همام، عن قتادة، عن صفوان بن محرز، قال: كنت آخذا بيد ابن عمر، إذ عرض له رجل، فقال: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى يوم القيامة؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله يدني المؤمن، فيضع عليه كنفه، ويستره من الناس، ويقرره بذنوبه، ويقول له: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه قد هلك قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم. ثم يعطى كتاب حسناته. وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين».
ثم ينفرهم من التناجي والمسارة والتدسس بالقول في خفية عن الجماعة المسلمة، التي هم منها، ومصلحتهم مصلحتها، وينبغي ألا يشعروا بالانفصال عنها في شأن من الشئون. فيقول لهم: إن رؤية المسلمين للوسوسة والهمس والانعزال بالحديث تبث في قلوبهم الحزن والتوجس، وتخلق جوا من عدم الثقة؛ وأن الشيطان يغري المتناجين ليحزنوا نفوس إخوانهم ويدخلوا إليها الوساوس والهموم. ويطمئن المؤمنين بأن الشيطان لن يبلغ فيهم ما يريد:
{إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا- إلا بإذن الله- وعلى الله فليتوكل المؤمنون}..
فالمؤمنون لا يتوكلون إلا على الله. فليس وراء ذلك توكل، وليس من دون الله من يتوكل عليه المؤمنون!
وقد وردت الأحاديث النبوية الكريمة بالنهي عن التناجي في الحالات التي توقع الريبة وتزعزع الثقة وتبعث التوجس:
جاء في الصحيحين من حديث الأعمش- بإسناده- عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإن ذلك يحزنه».
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)}
وهو أدب رفيع، كما أنه تحفظ حكيم لإبعاد كل الريب والشكوك. فأما حيث تكون هناك مصلحة في كتمان سر، أو ستر عورة، في شأن عام أو خاص، فلا مانع من التشاور في سر وتكتم. وهذا يكون عادة بين القادة المسئولين عن الجماعة. ولا يجوز أن يكون تجمعا جانبيا بعيدا عن علم الجماعة. فهذا هو الذي نهى عنه القرآن ونهى عنه الرسول. وهذا هو الذي يفتت الجماعة أو يوقع في صفوفها الشك وفقدان الثقة. وهذا هو الذي يدبره الشيطان ليحزن الذين آمنوا. ووعد الله قاطع في أن الشيطان لن يبلغ بهذه الوسيلة ما يريد في الجماعة المؤمنة، لأن الله حارسها وكالئها؛ وهو شاهد حاضر في كل مناجاة، وعالم بما يدور فيها من كيد ودس وتآمر. ولن يضر الشيطان المؤمنين.. {إلا بإذن الله}.. وهو استثناء تحفظي لتقرير طلاقة المشيئة في كل موطن من مواطن الوعد والجزم، لتبقى المشيئة حرة وراء الوعد والجزم..
{وعلى الله فليتوكل المؤمنون}.. فهو الحارس الحامي، وهو القوي العزيز، وهو العليم الخبير. وهو الشاهد الحاضر الذي لا يغيب. ولا يكون في الكون إلا ما يريد. وقد وعد بحراسة المؤمنين. فأي طمأنينة بعد هذا وأي يقين؟
الدرس السادس: 11 توجيه المسلمين إلى آداب المجالس:
ثم يأخذ الذين آمنوا بأدب آخر من آداب الجماعة: